إلى جانب جرس منزل هايدغر، تشير بطاقة صغيرة إلى أن "الزيارات بعد الخامسة مساء”. كان على الزوار الكثر المدعوون إلى غرفة مكتب هايدغر صعود درج انسيابي.
  
 كان صعود الدرج، في تلك الفترة يسبب العناء له ولزوجته إلفريده لتقدمهما في السن، لذا تطلب الأمر بناء مبنى صغير في الحديقة. لتمويل هذا البناء رغب هايدغر في بيع مخطوطته الكينونة والزمان، وقد حطت رحالها مع جميع اللفافات التي تمثل تركته في مركز توثيق بمارباخ مقابل مبلغ مالي كبير.
 استطاع هايدغر بناء البيت الصغير بالحديقة، وحافظ على نظامه المعتاد. عمل بعد الظهر, وقيلولة بعد الغذاء، ثم عمل حتى وقت متأخر بعد الظهر، فاستقبال الضيوف، ثم نزهة تنتهي عند منحدر يطل على المدينة. وفي فصل الربيع والخريف كان يقضي بعض الوقت في مسقط رأسه بمسكيرش عند أخيه الأصغر، وخلالها كان يحضر بقبعته الباسكية في الصف الأمامي في كنيسته القديمة حيث اعتاد أن يجلس حين كان صبيا قارعا للجرس. يقدره سكان مسكيرش كثيرا، فقد منحوا له عام 1959 رتبة مواطن فخري، ويرتبك غالبيتهم عندما يقابلون الأستاذ الشهير وجها لوجه.
 
 غدا هايدغر سيدا متقدما في السن، مهابا، لكنه معتدل المزاج مقارنة بشبابه، كان يذهب إلى الجيران لمشاهدة النقل المباشر لمباريات كأس أوروبا، حتى أنه رمى ذات يوم كأس الشاي من الإثارة. التقاه مدير مسرح فرايبورغ السابق مرة في القطار، وأراد أن يجري معه حديثا في الأدب والفلسفة، غير أن هايدغر فضل الحديث عن اللاعب بيكنباور، إذ كان شديد الإعجاب به، وكان يلقبه باللاعب العبقري. يبدو هايدغر واثقا من آرائه المتعلقة بطريقة اللعب في الميدان، لأنه في مسكيرش لم يكن قارع أجراس الكنيسة وحسب، بل كان لاعب كرة قدم أيضا. 
 
 في 4 دجنبر 1975م توفيت حنا ارندت، وكان هايدغر بدوره يحضر نفسه للموت في سلام، فقد استدعى صديقه برنهارد فيلته، أستاذ اللاهوت في فرايبورغ، وأبلغه رغبته في أن يدفن في مسقط رأسه، وأن تجرى له مراسم دفن كنسية، كما طلب من فيلته إلقاء كلمة عند قبره. في 26 ماي من نفس السنة وبعد استيقاظ سريع في الصباح دخل هايدغر في السبات الأبدي. تمت مراسم جنازته كما طلب بالضبط، فهل عاد هايدغر إلى حضن الكنيسة في النهاية؟
 
 بدأ هايدغر مساره فيلسوفا كاثوليكيا، لكنه لم يلبث في نفس المسار، فسرعان ما طور فلسفة الدازاين، ولايزال تورطه السياسي يسبب تشنجات حتى بعد وفاته. كان يبدو أن هايدغر انتهى بعد الحرب العالمية الثانية، بيد أن فلسفته ساعدته مرة أخرى في تحرير نفسه من المشهد السياسي، فقد كان اسمه الأكثر إثارة في تاريخ الروح الألمانية، لقد كان، بالفعل، معلما ألمانيا جاء من مدرسة المتصوف إيكهارت.
 
 يعتبر هايدغر معلم البداية، إذ بحث في بدايات الفلسفة عند اليونان، ولم يكن يحبذ أبدا تعقب العلاقة بين الحياة والفكر، ورفض بشدة ذلك فيما يتعلق بحياته. ففي إحدى محاضراته وحين تحدث عن حياة أرسطو طاليس اكتفى بثلاث كلمات: ولد، وعمل، ومات. ما أراده هايدغر هو أن يُحكى عنه بنفس الطريقة، فقد عاش لأجل الفلسفة وحدها، أما حياته الخاصة فلا مكان لها ضمن هذه الصيرورة ولا شأن لأحد بها، غير أن ما وقع كان عكس رغبته تماما، فما كتب عن حياة هايدغر الخاصة كثير جدا، ويعتبر كتاب معلم ألماني: هايدغر وعصره للمؤرخ والفيلسوف الألماني رودريغر سافرانسكي من أهم البيوغرافيات التي مزجت بين فلسفته وحياته الخاصة، وقد ترجمه إلى اللغة العربية عصام سليمان، وصدر عن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات بقطر (أكتوبر 2018). وللمؤلف سافرانسكي العديد من الأعمال البيوغرافية الذائعة الصيت، والتي نال عن بعضها جوائز مهمة، وأشهرها: فريديريك نيتشه: سيرة فلسفية، وشوبنهاور وسنوات الفلسفة الجامحة، وشيلر أو اختراع المثالية الألمانية. 
 
يبدأ سافرانسكي سيرة هايدغر من بداياتها الأولى ويتعقبها إلى النهاية بأسلوب شيق وممتاز واستنادا على شهادات ووثائق متعددة. 
 
 كان أسلاف هايدغر لأبيه فلاحين يدويين قدموا إلى مسكيرش من النمسا في القرن الثامن عشر، واشتهر والده فريديريك بالعمل في صناعة البراميل، وفي نفس الوقت كان يقوم بمهمة شماس بكنيسة القديس مارتن الكاثوليكية، توفي في عام 1927م، وبذلك لم يتسن له معايشة الإنجاز الفلسفي لابنه، أما والدته فقد توفيت سنة 1927م، وتزامن ذلك مع صدور كتابه الكينونة والزمان، وقد وضعه على سرير موتها إكراما لها
 
 ترعرع مارتن هايدغر رفقة شقيقه الأصغر في بيت متواضع صغير لأسرة شماس في ساحة الكنيسة، وكانا يساعدان والدهما في الخدمة، يقطفان الورد لتزيين الكنيسة ويقومان أحيانا بمهمة قرع الأجراس، وإذا كان فريتس قد استكمل حياته في مكان ولادته، فإن أخاه مارتن قد استكمل مسيرته بطريقة مغايرة تماما. 
 
 لم تكن عائلة هايدغر ميسورة بشكل يسمح لها بالإنفاق على تعليم أولادها في مدارس خاصة، وهنا لعبت الكنيسة دورها الأساسي، حيث تكفلت بِمِنَحِ الموهوبين من أبناء المنطقة، وكان من بينهم مارتن هايدغر الذي التحق بمعهد محلي، وكانا والداه فخوران لأن الكنيسة شملت ابنهما برعايتها، وقد استمر هذا التكفل المالي طيلة ثلاثة عشر سنة، حيث ظل هايدغر معتمدا في تمويله على عالم الكاثوليكية إلى ما بعد تاريخ بدء فك ارتباطه الداخلي بها. 
 
كان مارتن تلميذا وطالبا مجتهدا، وكان طموحه يدفعه باتجاه العمل الكنسي، وشجعه معلموه على تحقيق رغبة الذاتية، وهكذا دخل سنة 1909 في رهبنة مجمع يسوع في تيزيز بمقاطعة فورارلبرغ، غير أنه طرد بعد أسبوعين بسبب أعراض قلبية ظهرت عليه، وكانت السبب في قطع تدريبه الكهنوتي. 
 
 بقي مارتن هايدغر على إصراره، حيث تقدم ثانية بطلبه الترشح لمعهد اللاهوت بفرايبورغ، ولأن المحاضرات لم ترض فضوله المعرفي، خصص جزءا من قراءاته الحرة للفكر السكولائي، وعرف عنه وقتئذ عداؤه للحداثة، وقد تعرف عن المعنى المتعدد للموجود بحسب أرسطو من خلال هدية أستاذه كونراد غروبر الذي منحه أطروحة عن الموضوع تقدم بها فرانتس برناتو. كان برناتو معلم هوسرل، وهو بذلك يعد أحد مؤسسي الفينومينولوجيا، وعَبْرَ هذا الأخير توصل هايدغر إلى فكر هوسرل، حيث صار كتاب هذا الأخير مباحث منطقية كتابه المفضل.
 
  ابتعد مارتن هايدغر عن دراسة اللاهوت، وخصوصا بعد أن تكون لدى رؤسائه انطباع بأن جسده غير المستقر لا يسمح بتوظيفه في الخدمة الكنسية، ولذلك سيعمل على استكمال دراسته لنيل الدكتوراه والتقدم لمنصب الأستاذية، فتسجل عام 1911م في كلية العلوم الطبيعية بفرايبورغ، وبدأ محاولاته الأولى لأجل النشر في بعض المجلات، وفي صيف 1913 نال الدكتوراه في الفلسفة عن عمله نظرية الحكم في النزعة النفسية، وفيه يبدو بوصفه تلميذا نجيبا لهوسرل، الذي ترك أثرا عميقا في عمله.
 
 بدأت محاولات هايدغر الحصول على منصب الأستاذية، ووجد في هاينريش فينكه المؤرخ الكاثوليكي ضالته، فقد كان واسع التأثير في الكلية، وأعطى أملا للشاب الطموح ذو ال 24 عاما للحصول على كرسي شنايدر الشاغر، والخاص بتدريس اللاهوت، غير أن انغرلبرت كربس هو من حصل على المنصب في النهاية، وخرج هايدغر خائبا، وجدد سنة 1914 توجهه لدراسة السكولائية والفلسفة المسيحية بهدف الحصول على كرسي الكاثوليكية، وقد خصصت له مؤسسة القديس توما الأكويني منحة خاصة لمدة ثلاث سنوات، وخلالها أعفي من المشاركة في الحرب العالمية الأولى بسبب مرضه القلبي، وبسبب ذلك وجد الوقت الكافي لاستئناف عمله على أطروحة التأهيل للأستاذية مجددا بغرض تحقيق نجاحه الشخصي.
 
 أنهى سنة 1915 أطروحة التأهيل وسلمها للمعلم ريكرت، كبير الأساتذة بفرايبورغ، الذي أعطاه فرصة تقديم محاضرة تجريبية اختار لها عنوانا: مفهوم الزمان في علم التاريخ، وأصبح هايدغر منذئذ أستاذا مساعدا، غير أنه سيساق إلى الخدمة العسكرية، ولأن أعراض المرض ظهرت عليه ثانية أدخل المستشفى العسكري لمدة أسبوعين، لينقل بعدها للمساهمة في مهمات مدنية، حيث احتفظ به في مركز مراقبة البريد إلى جانب النساء والرجال غير المؤهلين للخدمة العسكرية. 
 
كانت خدمته مريحة انتهت مع بداية 1918، وقد أتاحت له الفرصة للاستمرار في أبحاثه. وبالرغم من أنه فشل سنة 1916 في الحصول على منصب كرسي الفلسفة الكاثوليكية الشاغر، فقد كان القرار مخيبا لآمال هايدغر الذي كان اسمه يتردد على الألسن طوال عامين بكونه الأحق بالمنصب، بيد أن اللجنة اتفقت على جوزيف غايزر، وقدمت تعليلا اعتبره هايدغر مهينا، لدرجة أن اسمه لم يظهر على لائحة المرشحين المتنافسين، وقد علق صديقه لاسلوفسكي على ذلك بالقول: " إنهم يخافونك، ليست كلها إلا دوافع شخصية، ما عاد بمقدورهم الحكم موضوعيا".
 
 خاب أمل هايدغر حين لم يستطع في أول محاولتين له تقلد كرسي تعليم، ووجب عليه أن ينتظر سبع سنوات أخرى.
 
في خريف 1915م تعرف هايدغر إلى زوجته اللاحقة إلفريدة، وهي طالبة متخصصة في الاقتصاد وابنة موظف بروتستانتي من الشمال. وحين قرر الارتباط بها رسميا كان ذلك بمثابة صفعة لوالديه الورعين والملتزمين بالمذهب الكاثوليكي. 
 
 في عام 1916 قدم ادموند هوسرل إلى فرايبورغ، ولم تكن الفينومينولوجيا قد اشتهرت بعد، غير أنها غدت شائعة بعد بضع سنوات قليلة، وهذا ما دفع الكثيرين إلى المجيء لفرايبورغ ليستمعوا لمحاضرات هوسرل، وكان من بينهم غادامير. أما هايدغر فقد كان حاضرا ومتابعا لهذا الأستاذ الألمعي، بل إنه حاول التقرب منه بصفته المعلم، لكن هذا الأخير أظهر جفاء تجاه تلميذه في البدء باعتباره قادما من الفلسفة الكاثوليكية، بيد أنه استطاع تحصيل موعد شخصي مع أستاذه صيف 1917م ، وكانت تلك بداية لازهرار علاقتهما الشخصية والمعرفية، ولأن هوسرل كان يبحث عن مساعد جديد له وافق على تعيين هايدغر، لتنتقل علاقتهما إلى مستوى عال من الحميمية. فقد اعتبر هوسرل هايدغر بمثابة ابن له، ووجد فيه ملاذا لفقد ابنه الأصغر في الحرب سنة 1916. 
 
 مع إلقاء هايدغر محاضرته عن "تجربة المنصة" سنة 1919، طلق هايدغر الكاثوليكية بشكل نهائي، وخلالها التقى بكارل ياسبرز، الذي كان يكبره بست سنوات، هذا الأخير جاء من قطاع الطب النفسي وصنع لنفسه اسما بكتابه علم النفس المرضي العام، إلا أنه بدأ الابتعاد عن تخصصه الطبي واتجه نحو الفلسفة، وقد فهم هذا الأخير هايدغر أكثر من غيره، وتوطدت علاقتهما الشخصية، حيث قضيا معا سنة 1922 بضعة أيام في هايدلبورغ بمنزل ياسبرز، وخلالها بدأت إرهاصات أطروحة الكينونة والزمان تظهر، وقبل خروجها للوجود اطلع عليها باول ناتورب الذي عَدَّها مشروعا عبقريا، في حين وصف غادامير، الذي كان يعد آنذاك أطروحته، المخطوطة بالملهمة، وكانت سببا رئيسيا لإدمانه الاستماع لمحاضرات هايدغر في فرايبورغ، بل إن بعضهم اعتبره الملك غير المتوج للفلسفة في ألمانيا، بالرغم من أن بعض زملائه الأساتذة والطلاب الذين لا يعرفونه يخالونه بملابسه البسيطة عامل التدفئة أو البواب،  فقد كان هايدغر نموذجا غريبا في مظهره، فقد كان يأتي في بعض الأحيان للمحاضرة مرتديا سترة التزلج. 
 
 في عام 1920 رغب هايدغر في الحصول بماربورغ على منصب الأستاذية مجددا، غير أن اللجنة حرمته من تحقيق طموحه مجددا بدعوى أن منشوراته كانت قليلة. عاود المحاولة سنة 1922 مستفيدا من شهرته التعليمية، وقد نجح في النهاية، حيث عين سنة 1923 أستاذا مشاركا بوظيفة أستاذ كرسي، هنئه زميله ياسبرز، وفي هذا الوقت بدأ فيه هايدغر الابتعاد عن أستاذه هوسرل، بالرغم من أنه ظل يدعوه علانية بمعلمه، وينتفع من دعمه. 
 
 سريعا جدا غدا هايدغر مشهورا بسبب محاضراته الغنية والكثيفة، فقد لفت الأنظار إليه بسبب طريقته وشخصيته القوية، فاسمه كان جالبا لجمهور ضخم من المستمعين، وفي هذا الصدد حاول غريمه ادوارد شبرانغر التقليل من شأنه من خلال الادعاء أن شعبية هايدغر تعود إلى شخصيته، وليس لفلسفته التي تكاد تكون غير ملائمة للتدريس، وغير مفهومة لدى طلابه ممن يتزاحمون على دروسه. 
 
 في مطلع عام 1924 قدمت إلى ماربوغ طالبة يهودية شابة بغرض متابعة دراستها الفلسفية، وطوال موسمين دراسيين استقبلت في غرفتها سرا أستاذها هايدغر. انجذبت إليه بشكل سريع جدا، كان يكبرها بسبعة عشر سنة، وقد ظلت علاقتهما طي الكتمان. أحب هايدغر حنة ارندت، وستصبح إحدى ملهمات كتابه الكينونة والزمن، وسيعترف في مراسلاته أنه لولاها ما استطاع كتابة هذا العمل، وقد استمر هذا الالهام حتى بعد أن غادرته إلى المنفى. 
 
 في عام 1927 نشر هايدغر عمله الضخم الكينونة والزمان، والذي خصص له وقتا طويلا جدا، لدرجة لم يتمكن معها من حلق ذقنه لأيام طويلة، وفيه أحيا مجددا أرسطو وأفلاطون، ورقي بسبب هذا المؤلف من أستاذ مشارك إلى أستاذ كرسي الفلسفة الأولى، وغدا كتابه واسمه محل نقاش في الحلقات الدراسية المتعددة. 
 
 كان هايدغر مستمتعا كثيرا بشهرته، وحازت محاضراته عام 1930 أهمية كبرى بالنظر لعمقها الفلسفي. وفي هذه الفترة بالذات كانت معاداة السامية قد بدأت في التفشي سريعا داخل أوساط المجتمع، فقد كتب هتلر من سجنه كفاحي. لم تجذب السياسة هايدغر، لكن المفاجأة والدهشة اعتلت وجوه طلابه حين أعلن انحيازه للحزب النازي، باعتباره الحصن الذي سيحمي الألمان من خطر الانقلاب الشيوعي، بيد أن تعاطفه السياسي مع الاشتراكية القومية لم يجد مدخلا إلى فلسفته. 
 
كان وصول الاشتراكيين القوميين للسلطة ثورة بالنسبة لهايدغر وبداية حقبة جديدة في تاريخ الكينونة، فقد بدت له قادرة على تحقيق حلم الشاعر الألماني هولدرلين في الوحدة، إنها السكرة التي أصابت هايدغر كما أصابت فئات شعبية أخرى. فقد آمنوا بهتلر، وقدراته الخارقة، ففي سؤال طرحه ياسبرز على هايدغر آنذاك: كيف يمكن أن يحكم ألمانيا شخص غير مثقف مثل هتلر؟ فيجيبه هذا الأخير: "التثقيف ليس مهما أبدا... أنظر إلى يديه الرائعتين فحسب". وتبقى العبارة التي نطق بها هايدغر في نونبر 1933 بقوله: "الزعيم نفسه ووحده هو واقع ألمانيا وقانونها، اليوم ومستقبلا"، راسخة، فقد لاحقته باستمرار، بالرغم من أنه حاول تقديم تأويل مغاير لها لاحقا. 
 
 تورط هايدغر حين اعتبر انقلاب 1933 حدثا ميتافيزيقيا أساسيا في الدازاين الألماني، وازداد تورطه حين انتخب رئيسا لجامعة فيورباغ، ولم يُنس بتاتا من الذاكرة خطاب التنصيب الذي مجدته الصحافة النازية، بالرغم من ابتعاده بعد سنة واحدة عن الاشتراكية القومية. 
 
 تزامنت السنة التي تولى فيها منصب رئيس الجامعة مع أحداث كثيرة منها: مقاطعة الطلاب النازيين للأساتذة اليهود، وتصريف هؤلاء لاحقا من الخدمة ومن بينهم هوسرل، الذي أحس بأنه جرح، فقد خاب ظنه في تلميذه هايدغر، والذي وإن لم يكن معاديا للسامية إلا أنه تجنب ربط أي اتصال بالأساتذة اليهود حتى لا يصطدم بهيئة الطلاب النازيين. فلم يعد يتواصل مع هوسرل، لكن الإشاعة بشأن حضره دخول معلمه القديم للحلقة الدراسية كانت كاذبة، إلا أنه لم يقم بأي خطوة لكسر عزلته، كما غاب عن مراسيم دفنه سنة 1938، وظل تقريره السيء الذي رفعه في حق ادوارد بومغارتن وكذا وشايته بشتاودينغر وصمة سوداء في تاريخه. 
 
وفي بالمقابل نجد أن هايدغر دافع عن الأستاذين اليهوديين ادوارد فرينكل وجورج فون هيفيسي للبقاء في منصبهما. ففي رسالته للوزارة حاول المحاججة عنهما ليستمرا بالجامعة، غير أن طلبه رفض. كما جند نفسه للدفاع عن مساعده اليهودي فيرنز بروك، وحين فشل في الاحتفاظ به في الجامعة رتب له منحة بحثية في كامبردج، وهذه النماذج أظهرت تحفظ هايدغر في وجه نزعة معاداة السامية، غير أن ذلك لم يبرئه تماما. 
 
 استقال هايدغر في أبريل 1934 من رئاسة الجامعة، وبدأت علاقته بالسياسة والحزب تتراجع في اتجاه التلاشي، وعاد مجددا للاهتمام بأبحاثه، واتجه لإلقاء محاضراته عن هولدرلين، الذي سيبقى مرجعا دائما في تفكيره، غير أن السلطات المحلية ستستدعي هايدغر في دجنبر 1944 للخدمة العسكرية الإجبارية، وستزج به ضمن قوات الجيش الشعبي المتجه لمواجهة القوات الفرنسية بمنطقة الألزاس، التي سرعان ما ستعود أدراجها بعد الانتصارات التي كانت تحققها دول الحلفاء على الأرض، ولأن فرايبورغ تعرضت للتدمير من طرف الطيران الإنجليزي، فإن هايدغر اتجه إلى مسقط رأسه الآمن بمخطوطاته، ولن يعود إلى فرايبورغ إلا بعد نصف سنة تقريبا، ليجدها محتلة من طرف الجيش الفرنسي، ووجد اسمه ضمن اللائحة السوداء بالمدينة باعتباره نازيا سابقا لرئاسته الجامعة، وتعرض لتهديد الطرد من المنزل، وتم إبلاغه بأنه لا يستطيع الالتحاق بعمله. 
 
 احتج هايدغر على هذه القرارات وأبدى اعتراضه لكونه لم يتقلد أي منصب في الحزب، ولم يمارس أي نشاط سياسي، وكان عليه أن يمثل أمام لجنة التحقيق التي واجهته بتهم الدعاية للنازية وتطبيق مبدأ القائد أثناء ترأسه منصب رئيس جامعة فرايبورغ، وقد انتهت إلى تقويم مخفف لحالته، فبعد سنة 1934 لم تعد له صلة بالنازية، لكنه أعفي من مهمة التدريس وأحيل الى التقاعد المبكر. وقد اعترض هايدغر على هذه القرارات، وطلب خبرة كارل ياسبرز، وانتظر منه قرارا بالتبرئة، غير أن ظنه خاب. فالتواصل بين الرجلين كان قد انقطع في عام 1936م، وياسبرز طرد من عمله لأن زوجته كان يهودية، وهايدغر لم يسانده آنذاك ولو بكلمة. 
 
 برأ ياسبرز في تقريره هايدغر من تهمة معاداة السامية، بيد أنه رأى أن طريقته في التدريس ديكتاتورية ولا تتناسب مع الطموح الجديد في مجال التربية والتعليم. وبناء عليه اتخذ مجلس الجامعة قرارا في سنة 1946 بسحب تصريح التعليم من هايدغر وإبعاده من عمله. 
 
 سيعود هايدغر إلى الواجهة مجددا وبقوة من خلال رسالة عن النزعة الإنسانية، وكانت ردا مباشرا على أطروحة سارتر عن العدم والوجود تحديدا وعلى موضة الوجودية بشكل عام. 
 
 كما تجاوز هايدغر بسرعة الأزمة النفسية التي ألمت به سنة 1946م، حيث خضع للعلاج في مصحة نفسية على يد الدكتور فكتور فرايهر، إذ  تأثر بمناخ العزلة المفروض عليه. فالغالبية كانت تتحاشى الاحتكاك به حفاظا على صفحتها البيضاء، بيد أن زرعه الفلسفي سرعان ما سينبت مرة أخرى وبشكل أرحب، وقد كان لحنة ارندت وكارل ياسبرز دور كبير في عودته مجددا، إذ استأنفا التواصل معه عبر المراسلات، وكرسا جهدهما لإلغاء حظر التعليم المضروب عليه، فقد كتب ياسبرز (والذي أضحت له مكانة اعتبارية لحرمانه من الحماية القانونية خلال الحقبة النازية) لرئيس جامعة فرايبورغ سنة 1949م ملتمسا منه فتح المجال لعودة السيد هايدغر للعمل باعتباره أحد أهم فلاسفة العالم. 
 
 بالفعل تم بعد أشهر من ذلك الاستجابة لطلبه، إذ ألغي حظر التعليم المطبق على هايدغر، وبدأ في إلقاء المحاضرات ثانية بهدوء وفي جو اعتباري مريح، بيد أنه في فبراير سنة 1966 نُشِرَ مقال مغرض في مجلة دير شبيغل بعنوان الفلسفة السياسية في فكر هايدغر، والذي عالج الجانب الاشتراكي القومي في فكره، وكان المقال مليئا بالاتهامات والإشاعات، وهو ما أغضب حنا ارندت وياسبرز، واتهما جماعة أدورنو بالوقوف وراءه، وقد وجد هايدغر نفسه - بسبب هذا المقال - مدفوعا من قبل أصدقائه ومعارفه للجواب بعد فترة طويلة من الصمت اتجاه هذا الموضوع المزعج، وأخيرا حصلت المقابلة بين هايدغر ومجلة شبيغل للرد على كل الاتهامات، وهي المقابلة التي تمت في شتنبر 1966م، ولم تنشر إلا بعد وفاته، وذلك سنة 1977م، نزولا عند شرط هايدغر، وكانت تحت عنوان: وحده الله القادر على إنقاذنا. هذه المقابلة المشهورة لم يقر فيها بالذنب، ودافع عن نفسه بطريقة قوية، وكما كان متوقعا لم تنه هذه المقابلة ذلك الجدل المستمر بشأن التزامه السياسي.
 
بقلم: خالد طحطح