قيل : العواطف ليست قليلة الشأن في العملية التعليمية، فذكاء الانفعالات مۆشر تُسلط عليه الأضواء الآن بشدة.
إن حاصل الذكاء ليس كلّ شيء، والذكاء لا يُعبر عنه بالأرقام، وأشكاله عديدة، لا يمكن توقعها أبداً في بعض الأحيان، هذا ما يكتشفه الباحثون يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد أن وضعوا إصبعهم على "الذكاء الانفعالي"، الذكاء الذي يتولد عن انفعالاتنا.
لاشكّ أنّ الانفعالات تتحكم في ذكائنا، أكثر من الكفاءات المنطقية - الرياضياتية – (Mathematiques Logico) التي كتب في تقريظها فيض من الصفحات أبعدتنا عما سواها من عناصر الذكاء ومكوناته. ومن الصحيح القول: إنّ من الصعب – ولكن ليس من المستحيل – السيطرة على الانفعالات، لأنها من العقبات القوية لتطور النوع البشري.
لقد عكف الفلاسفة والمفكرون على دراستها منذ أقدم الأزمان، ومنهم من ظنها تصدر عن القلب، وحسبها آخرون حكراً على الشعراء. إلا أنّ الباحثين تمكنوا، في غضون السنوات الأربع أو الخمس الماضية فقط، من تحديد مواضع الانفعالات في الدماغ، وأدركوا صعوبة ترويضها. وخلال الفترة نفسها، بدأ الاستعرافيون – دارسو تنظيم الذكاء الإجمالي – يميزون دورها.
في العام 1992، أثبت "جوزف لودو"، طبيب الأعصاب في جامعة نيويورك، أنّ الانفعالات تتولد من قلب اللوزتين Amagdoales، البنيتين اللتين تتموضعان في الجهاز الجوفي Limbique بالمخ، والمسۆولتين عن إطلاق ردود الفعل الآنية شبه المنعكسية، قبل تدخل القشرة المخية الحديثة Neocortex، "الدماغ المفكر"، التي ترتبط بهما عبر شبكات الخلايا العصبية.
لقد أوضح "لودو" وكذلك "دانيال غولمان" أستاذ علم النفس في جامعة "هارفارد"، الهندسة الدماغية التي تنتج للوزة أن تكون بمنزلة الشرارة النفسية للدماغ، ولماذا تستجيب قبل القشرة المخية الحديثة "الدماغ المفكر"، التي تعالج المعلومة بطريقة أعقد، والتي تختار رد الفعل الأنسب تكيفاً.
خلال الفترة نفسها تقريباً، وعقب دراسة عشرين مريضاً يعانون جميعاً من آفات "أذيات" في قشرة مقدم الجبهة المخية، أثبت "أنطونيو داماسيو"، رئيس فرع طب الأعصاب في جامعة "إيوا" والأستاذ في معهد "سالك أنستيتيون"، ومۆلف كتاب "خطأ ديكارت"، الدور الأساسي الذي تتمتع به القشرة المخية الحديثة. كان مرضى "داماسيو" عاجزين عن الإحساس بانفعالاتهم الحديثة والتحكم بها:

 النتيجة: رغم أنهم يبدون طبيعيين، فإنّهم يفكرون بشكل رديء ويتخذون قرارات تضر بمصالحهم. استنتج "داماسيو" أنّه لا وجود للعقل في حالته المحضة، بل يتغذى دائماً بانفعالات، والقشرة المخية الحديثة هي الآمر على الصعيد الانفعالي، فهي تمزج الانفعالات، وتراقبها، وتنسقها، وتوجه أكثرها شدة وتضفي عليها معنى.
يقول "هواردغاردنر" من جامعة "هارفارد": في الغالبية العظمى من الحالات، تتحدد المكانة التي يحتلها الفرد في المجتمع من خلال عوامل هي غير الحاصل الذكائي. وكانت دراسات أجريت على طلاب جامعة "هارفارد" نفسها قد أظهرت أن من حصلوا على النتائج الأفضل في فحوص واختبارات حاصل الذكاء 1 لم يكونوا أفضل نجاحاً من طلاب آخرين بدوا آنذاك أقل لمعاناً من أصحاب نتائج الحاصل الذكائي الأفضل، وأكد باحثون آخرون أيضاً أنّ هذا الحاصل الذكائي الشهير لا يدخل إلا بنسبة 20% في النجاح الشخصي.
إذن، مم تتألف نسبة الـ 80% الباقية؟ في الواقع، تتشكل هذه النسبة المتبقية من تأثيرات الوسط الاجتماعي، ومن الح1 وبالأخص من هذا الجزء من الذكاء الذي لا تأخذه الاختبارات المعيارية بعين الاعتبار، ونعني به الذكاء الانفعالي، الذي أطلق فكرته، لأوّل مرة عام 1990، "بيتر سالوفي"، خبير علم النفس من جامعة "يال"، هذا الذكاء الحتمي، لنمونا وتطورنا ونجاحنا، وقد حدده آنذاك في خمس نقاط:
  1 - أن تعرف معرفة تامة انفعالاتنا الذاتية، هذه القدرة الجوهرية لفهم الذات والحس النفسي، وهذا ما يطلق عليه المحللون النفسيون اسم "الأنا المتنبهة" (Le Moi Attentif).
  2 - التشويق الذاتي Automotivation، هذه الملكة التي تۆهل الشخص لتوجيه انفعالاته من أجل التفكير ملياً.
  3 - السيطرة على الانفعالات، والقدرة على تكييف المشاعر مع كلّ وضع.
  4 - التقمص العاطفي Empatie، أو إدراك مشاعر الآخر – نقيض النفور – هذا الاهتمام بالآخرين الذي يفضي إلى الغيرية.
  5 - سيادة العلاقات الإنسانية، وسهولة التماس والتواصل مع الآخرين، هذه الملكة الخاصة في إدارة الانفعالات.
إنّ ما ذهب إليه "سالوفي" أثبته عالم النفس "وولتر ميتشل"، ملحقة بجامعة "ستانفورد" في "الولايات المتحدة"، فقد عرض "ميتشل" قطعاً من الحلوى على صبية من عمر 4-5 سنوات، قائلاً لهم: "يمكنكم الحصول على قطعة حلوى في الحال، ولكن من ينتظر بضع دقائق، ريثما أعود، يحصل على قطعتين". وسرعان ما استسلم البعض، ولم يقدروا على مقاومة الإغراء – ثلث الأطفال تقريباً – إلا أنّ البعض الآخر استطاع السيطرة على ذاته، وعرف كيف ينتظر، بعد ذلك بنحو ثلاثة عشر عاماً، عاد "وولتر ميتشل" إلى أطفاله هۆلاء أنفسهم، الذين اختبرهم في الحضانة، وكانوا قد أصبحوا بعمر ثمانية عشر عاماً تقريباً، وبعد استقصاء جديد، وجد الفروق النفسية بين الزمرتين واضحة: كان الأولون "الذين لم يستطيعوا مقاومة إغراء الحلوى" أكثر عناداً، وانغلاقاً على الذات، وحذراً إزاء الآخرين، وغيرة، ونزقاً، وعسيري التواصل، في حين بدا أفراد الزمرة الثانية أكثر ارتياحاً بكثير، وواثقين من أنفسهم ومطمئنين، وقادرين على اتخاذ المبادرات، لقد كانوا تلاميذ أفضل. وعلى نحو مواز، أوضحت تجربة أنجزها "ت. بيري برازلتون"، من المركز الوطني الأمريكي للطفل، أنّ النجاح المدرسي يرتبط بحالة الطفل الانفعالية ومنشئه الاجتماعي أكثر مما يرتبط بسهولة تعلم القراءة.

  •   قياس العواطف:

من الصعب جدّاً أن نفهم الذكاء الانفعالي في مجمله، إذ إننا لا نعرف كيف يمكننا قياس الذكاء الانفعالي. لماذا؟ لأنّ الاختبارات المتاحة، التي يكفي فيها ملء بعض الخانات، للتعبير عن الانفعالات، تضع تقديراً للكفاءات الشفهية أو المكتوبة التي تشير إلى الانفعالات "المعبرة عنها"، إلا أنها تعجز عن تقدير كمية "حجم" الانفعالات نفسها.
إذن، فهل نحن نعيش تحت رحمة الاندفاعات (Impulsions) التي تأتينا من أعمق جذور الإنسان، لا، لأن أهالينا يعلموننا، خلال الطفولة – بهذا القدر من الجودة أو ذاك – السيطرة على اندفاعاتنا، وعلى الرغم من المرونة العظيمة التي يتمتع بها دماغنا، خصوصاً، خلال السنوات الأولى من الحياة، فإن بعض باحاته (Aires)، الجوهرية على صعيد الحياة الانفعالية، تستغرق وقتاً طويلاً حتى تصل إلى نضجها النهائي. ويستمر نمو الفصوص الجبهية، التي تشكل مركز السيطرة على الانفعالات، حتى وقت متأخر من المراهقة، وأحياناً سن ثماني عشرة سنة.
ومنذ أعمال خبير الإدراك وعالم النفس الأمريكي "هوارد غاردنر" – طبيب الأعصاب في كلية طب جامعة "بوسطن" – الذي عكف منذ عشر سنوات على دراسة بنى الذكاء، أخذ بعض دور الحضانة، والمدارس الابتدائية والثانوية يدخل في مناهجه برامج هدفها تطوير وتنمية شيء آخر، إلى جانب الشكل الذكائي السائد حتى الآن في العديد من البلدان الغربية، والمتمثل في ذكاء المنطق الرياضي.
يتلقى تلاميذ المدارس في عدد من الولايات المتحدة الأمريكية، منذ عشر سنوات تقريباً، تعليماً نوعياً يهدف إلى تنمية وتطوير قدرات الأطفال الحسية، واللغوية، والموسيقية، والعلمية، والبدنية، والفنية، والانفعالية، والاجتماعية، والإدراكية، والارتقاء بمجمل عملية الفهم والذكاء الانفعالي. كما تعمل هذه المدارس على معالجة مسائل ملموسة، كالرفض، والرغبة، والغيرة، والنزاعات التي تتطور إلى مشاجرات. فضلاً عن ذلك، تحرص مدارس أخرى على أن تعلم أطفالها كيف يميزون انفعالاتهم ويوجهونها الوجهة السليمة – منذ الصف الأول الابتدائي وحتى آخر الصفوف الثانوية، ويدربونهم على الاهتمام بالآخرين، والتعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم، وتدوينها وضبطها، ويحثون المراهقين على التعاون مع مدرسيهم، لحل المشكلات والأوضاع والحقائق الاجتماعية التي يكتنفها الغموض. إنّ هذه المدارس تعلم تلاميذها كيف يكونون أقوياء في انفعالاتهم كقوتهم في الرياضيات.

  • قطف الثمار:

بدأ هذا التعليم النوعي يعطي ثماره، خصوصاً بين الشرائح الاجتماعية التي تعصف بها آفات الكحول، والمخدرات، والتسبب المدرسي، والعنف. وراحت هذه الأنماط التعليمية تثير اهتمام مئات المدارس الأميركية الأخرى، بل اهتمام الهيئات التعليمية في العديد من البلدان الأخرى، مثل ألمانياً، وبريطانيا، والبرازيل، وتايوان، وماليزيا.

  • الانفعالات المنقذة:

معروف اليوم كيف أنّ الانفعالات الرئيسية – الموجودة في كلّ ثقافات الأرض – تُعدل "تغير وتحور" وجودنا الحيوي "البيولوجي"، وكيف أمكن لهذه الانفعالات أن تساعد الجنس البشري على البقاء:
  - الغضب: يحدث الغضب إفرازاً لعدد من الهرمونات – مثل الأدرينالين الذي يدفع الشخص إلى التصرف بقوة وعنف، إنّه يطلق الدم في اليدين فيجعلهما أكثر خفة ورشاقة، فتمسكان بأول وسيلة دفاع أو هجوم متاحة، أو تضربان فوراً.
  - الخوف: إنّه يطلق دفقاً دموياً في العضلات التي تتدخل حينما يشرع الجسد بالتحرك، كحركات الساقين التي تهيئه للتحرك والهروب. من جانب آخر، يتيح الدماغ كمية كبيرة من الهرمونات التي تضع الجسم في حالة استنفار عام والحواس في وضع من التيقظ والانتباه في حالة من التركيز على مصدر التهديد.
  - المفاجأة: إنها ترفع حواجبنا، وتوسع عيوننا، وتصبح رۆيتنا أكثر دقة.
  - الاشمئزاز: يتغضن الوجه، ويتضيق المنخران، وهو ما يبدو أنه يعكس محاولة بدائية لتجنب نفاذ الروائح المثيرة للغثيان على نحو سريع عبر الأنف.
  - الحزن: إنّه يترافق بتباطۆ في الاستقلاب Metabolisme، الذي يسبب إحساساً بالضعف والعطب، وربما كان في ذلك ما ساعد البشر الأوائل على البقاء في سلام داخل مآويهم.

  • تأثير وتأثر:

لا يمكننا أن نعزل عناصر نمو الطفل وتطوره كلها ولا أن نسلسلها، فالكل مرتبط هنا بالجزء والجزء بالكل، ومن المعروف جيداً اليوم أنّ التطور الطبيعي والفيزيولوجي للدماغ هو الذي يقود مجمل عمليات التطور الذهني والعاطفي، وبات واضحاً، في ضوء معارف العقود الأخيرة، أنّ التآلف والتوازن بين جميع العناصر التي تشكل الشخصية على علاقة متبادلة، من حيث التأثير والتاثر، وأنّ الصعوبات العاطفية المهمة التي يمكن أن يواجهها الطفل، خلال العامين الأولين من حياته، تۆثر على نحو بالغ في عملية تطور ذكائه.
لقد خاض الباحثون جدلاً طويلاً، لم ينته، حول تحديد الفطري والمكتسب في الذكاء، إلا أنّ الكثيرين منهم تسلحوا بأفكار مسبقة استُخلصت من أفكار عامة أو من آراء سياسية واجتماعية جاهة لا علاقة لها بالمسألة الأساسية. ومن بين هذه الأفكار، هناك فكرة تقول "لنمنح الطفل كلّ الفرص عبر المدرسة"، إلا أن هذه الفكرة تنطلق، بشكل ما، من الفرضية التي تفيد بأن كل شيء ينشأ ويتطور بدءاً بسن ست سنوات، وهي سن دخول الطفل المدرسة. ولكن من المعروف جيِّداً أنّ الطفل في سن 5-6 سنوات مجهز، منذ وقت مضى، بالكثير من القدرات والإمكانات الفكرية والبنى العقلية والعاطفية المتطورة. إنّ الطفل في هذه السن يتمتع بعتاد ذهني ومزاجي، تطور وفقاً لشروط الأسرة، والنموذج الوالدي، والمحيط العام، حيث عاش حتى ذلك الحين، ومن شأن ذلك كله التأثير على لياقاته المدرسية، وتذوقه للدرس، وفضوله المعرفي، وقدراته اللغوية، وتطور منطقة.
من الصحيح القول: إنّ الكثير من الأشياء تنمو وتتطور في كيان الطفل قبل سن ست سنوات، ولكن ليس كلّ شيء. وليس كلّ شيء أيضاً يبدأ بالتطور والنمو بدءاً بسن ست سنوات، حسب مزاعم البعض. وإذا كان يمكن لظروف الدراسة والمدرسة وما تتركانه من تأثيرات مختلفة على شخصية الطفل أن يۆدّيان دوراً بارزاً في نجاحه، فلأنه قد طور منذ وقت سابق العديد من الكفاءات واللياقات الذاتية الأساسية التي تمكنه من اكتساب كامل زخم نموه، والإفادة من كل الإمكانات الممكنة التي يوفرها له المجتمع.
لعل من المضحك الاعتقاد بأنّ اللياقات الذهنية متماثلة في البداية لدى جميع الأطفال، وأنهم جميعاً يولدون متساوين في الإمكانات – عند عدم وجود شذوذات Anamalies كبيرة قد تعيق نموهم – وأنهم يكبرون ويتطورون على نحو متكافئ عند تماثل الشروط. في الواقع، إنّ في اللياقات الذهنية صغاراً وكباراً وميادين يطور فيها البعض، دون البعض الآخر، قدرات ومزايا نوعية، تماماً كعالم اللياقات البدنية، حيث البعض موهوب في العدو والبعض الآخر في كرة السلة.. إلخ.. وفي هذا الإطار، يمكن أن يشكل تعرف الطفل إلى ما لديه من قدرات ولياقات عاملاً مساعداً في النجاح والتميز.
                                          المصدر: مجلة العربي/ عـدد: 483

أضف تعليق


كود امني
تحديث