يرى بورخيس أن تاريخ الأدب هو تاريخ قراءة الأدب. جعله هذا الاهتمام الجمالي بالقراءة يعتني بما يسمى بالمتعة الأدبية، سواء في مقالاته التحليلية، أو في دروسه لطلبته.

لهذا يفتخر بورخيس بقراءته أكثر من كتابته، ويعبَر عن ذلك في جملة «فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفتخر بتلك التي قرأت». فالأدب لا يتحقق وجوده إلا بالقراءة. عندما نقرأ الأدب نجعله يتجلى أمامنا. لا يمكن التفكير في الأدب إذا لم يكن قد مر من فعل القراءة، ولذلك، بقي الأدب منذ أرسطو يعرف مقاربات عديدة ومختلفة لمنطقه. وحينما كانت القراءة عبارة عن فعل التفكير في المادة المعروضة، وإجراء تقني وفلسفي لتحليل الأدب، فإنها أضحت ذات أهمية في مختلف تجارب الاقتراب من الأدب. وكلما اهتمت نظرية المعرفة بالقراءة باعتبارها عنصرا جوهريا في الأدب، عبَرت عن الاهتمام بتدبير التفكير.

يصبح الأدب بهذا التوصيف حالة في طور التكون، والقراءة هي التي تُخرجه من التكون إلى التحقق. ليس كل القراءات مُؤهلة لهذه الوظيفة التاريخية – الجمالية، إنما تلك التي تنطلق من ذاكرة ثقافية حوارية، وتعقد تواصلا مع الأدب بمتعة ولذة وسعادة. القراءة إذن خطاب مسؤول، ومن يُنتجه يعد مسؤولا أمام تاريخ الأدب. عندما نفكر في الأدب من مدخل القراءة، فإننا نُعيد للتفكير اعتباره في وضعية الأدب، على اعتبار أن فعل القراءة هو ممارسة للتفكير. لهذا، يعد فعل القراءة الأدبية فعلا مسؤولا معرفيا، يقف ضد العبث بقراءة الأدب. كما أن تاريخ المناهج الأدبية هو تاريخ وسائط وأساليب التفكير في الأدب، وعندما تعرف بعض الأزمنة ضعفا في حضور المناهج الأدبية، وفعل القراءة الأدبية، فذلك قد يعبر عن وضعية مرحلة تاريخية يعرف التفكير فيها تراجعا. يؤثر وضع التفكير، وثقافة القراءة في الأدب، ولذا فالأدب لا يتطور من خلال منطقه الداخلي فحسب، إنما يتفاعل في تكونه وتحوله وتطوره مع القراءة.

قد يلاحظ البعض خاصة مع بداية القرن الواحد والعشرين ضعف ـ أو شبه غياب- الحديث عن مناهج أدبية جديدة، بعدما عرف مشهد التفكير الأدبي حضورا واهتماما بمناهج اعتُبِرت تحولا مهما في تاريخ الفكر الأدبي مثل البنيوية بكل تنويعاتها والسيميائية ونظرية التلقي وغير ذلك من المناهج التي كادت- أحيانا- أن تهيمن بقوة حضورها على الأدب، نُسجَل في الوقت ذاته تحولا مهما في الأدب ونظامه، مما يفترض تحولا مُوازيا في التفكير في الأدب وتحولاته. إنه تساؤل جدير بطرحه، لأن السعي إلى إيجاد الجواب، قد يُلقي بنا في شرط معرفي – منهجي جديد، يجعلنا ننتقل من طرح سؤال سبب ضعف المناهج، إلى سؤال شكل التفكير في الأدب حاليا، لأننا بتنا نلاحظ تمظهرات جديدة للأدب لا تخص الكاتب/المؤلف، بقدر ما تتعلق بالقارئ الذي بدأنا نتلمس حضوره، باعتباره صانعا للأدب من شكل الأدب نفسه. ننتقل هنا إلى مستوى جديد من القراءة، ليس بالمعنى المألوف القائم على فعل تلقي نظام قائم، يُقيد القراءة إما في التفسير والتوضيح، أو التفكيك والتركيب، أو التحليل والتأويل، مما يعطي الانطباع بمفهوم معين للأدب، باعتباره كائنا منتهيا في زمن كتابته الرمزية، إنما القراءة تتجاوز مفاهيمها السابقة والمألوفة، تلك التي تعتمد على تصور يجعل من الأدب خطابا قائما في ذاته ولذاته، وما القراءة إلا تجديد لهذا الوجود القبلي.

قد يقول قائل، إن الأدب باعتباره خطابا رمزيا، فإنه يمنح للقراءة مساحة من الحرية لجعل الأدب ممتدا في مساحات جديدة، ويعطي البعد الرمزي للقراءة الحق في إعادة إنتاج الأدب، إنه قولٌ منطقي، لا جدال فيه، لكونه يُدعم مشروعية تفعيل القراءة للأدب من مدخل الرمزي، لكن، ما نقصده هنا، لا يتعلق بهذا المستوى من القراءة باعتبارها زمنا لاحقا للكتابة الأدبية، بقدر ما نعني بتصورنا، وضعية القراءة باعتبارها زمنا موازيا للكتابة، عبر مفهوم التفاعلي- الإنتاجي، أي القراءة المُنتجة لنظام الأدب وشكله. ويحضر في هذا المستوى ما يسمى بالقراءة الرقمية – وليس الإلكترونية – التي تعتمد التفعيل الوظيفي الأدبي للترابطي. كما نلتقي داخل المنظومة نفسها، بما يسمى بالأدب البصري، أو القراءة البصرية للأدب، الذي يعد شكلا من محاولات التفاعل الإنتاجي للأدب.

من أجل الوعي بتمظهرات هذا المستوى من القراءة ذات البعد التفاعلي – الإنتاجي نستحضر تجربة الكاتبة الباحثة الإماراتية فاطمة البريكي في كتابها «الأدب البصري إبداعات طلابية». والكتاب عبارة عن أعمال الطلبة والطالبات الذين درستهم الأكاديمية فاطمة البريكي مادة «الكتابة والتكنولوجيا» في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الإمارات، منذ الفصل الجامعي الثاني لعام 2006-2007. ولعل تجربة الانتقال بالنص الأدبي من وسيطه الورقي إلى مساحة ممكنة بصرية، بإبداعات واقتراحات الطلبة، يعد مبادرة علمية إبداعية تستحق الانتباه، والعمل على استثمارها من أجل إنتاج وعي بعلاقة الأدب بشكل تلقيه في التجربة الأدبية الراهنة، وبطبيعة الفكر القارئ للنص. قد يبدو الموضوع غامضا، أو يدعو إلى التساؤل حول الإضافة التي يمكن أن يضيفها انتقال النص من الورقي إلى البصري، وهل البعد البصري يُلغي نظام النص السابق، وما الفائدة من هذا الانتقال القائم مسبقا على نظام صيغ، وهل تحترم عملية الانتقال إلى البصري مظاهر تحقق الإبداعي في الصياغة الأولى للنص الأدبي، ثم هل سنظل أمام نص واحد، وإن تعددت مظاهر تجليه (العبر- ورقي والبصري)، أم نحن بصدد الانتقال إلى نصين ونظامين؟ إنها تساؤلات جوهرية، قد يطرحها كل مهتم بالأدب وتاريخه، بقراءته وتحليله، حتى لا يلحق العبثُ الأدب، فيتحول هذا الأخير إلى مادة طيعة أمام كل انفلات واختراق. لهذا، يحتاج الأمر إلى بعض التريث في عملية الانتقال أولا، ثم في ضرورة الوعي بهذا الانتقال، باعتباره إمكانية من الإمكانيات التي تُساهم في خلق شرط الإنتاج الإبداعي.

نشير في البداية إلى أن ظهور كل تحول في الكتابة أو في قراءتها يحتاج زمنا ثقافيا وتاريخيا لتمثله ضمن سياق خاص بتطور الوعي بالأدب. تقترح الباحثة فاطمة البريكي، في كتابها، تأمل تجربة الانتقال بالأدب من وسيطه الورقي إلى الصيغة البصرية، عبر اجتهادات طلابها. وتُؤكد الباحثة في مطمحها على الانتباه إلى حاسة البصر في تلقي النص الأدبي. تقول في مقدمة الكتاب، «أي أن المتلقي يجب أن يتلقى النص قراءة مستخدما حاسة بصره، لا أن يستخدم حاسة السمع كما درجت العادة مع النصوص الشعرية والنثرية العربية (القصائد والخطب مثلا)».

إن التساؤلات التي طرحناها سابقا حول انتظارات الأدب من انتقاله إلى البصري، نلتقي بأجوبة عليها في منهجية تدريب الباحثة لطلبتها على ثقافة هذا الانتقال. ولهذا، فهي تحدد المرحلة الأولى بانتقال عادي، ليس له أي دخل بإنتاج معنى مختلف، أو حتى إعادة صياغة المعنى السابق نفسه في الشكل البصري، إنما هي خطوة أولى، تُدخل القارئ/المُنتج إلى عالم الاجتهاد، من أجل إعادة كتابة النص بصريا (حاجة جمالية صرفة)، وفي هذا محاولة للانخراط في التخييل (التَدرب على المحاولة). أما المرحلة الثانية فإن الشكل المُقترح من قبل الطلبة – القراء يدعم فيها النص، ولا تتجاوز العلاقة بينهما التمثيل الشكلي الحرفي للمعنى المتضمن في الكلمات أو النص. تأتي المرحلة الثالثة، وتحدد تطور معنى الانتقال، وتعد من أصعب المراحل، «إذ يجب على الشكل أن يضيف للمعنى إضافة جوهرية، وليس مجرد تغيير خارجي في طريقة تقديم النص المكتوب، أو تدعيم لمعنى موجود أساسا».

قد نختلف في بعض مظاهر تحقق عملية الانتقال بالأدب من صيغته المألوفة إلى صيغة مُبتكرة، إذا لم تنجح العملية في دعم أدبية الأدب وهو ينتقل، لكننا نتوافق معرفيا في كون كل تحول في صيغة تجلي الأدب، يمكن استثماره من أجل فهم الأدب، وإبداع أكثر الأساليب والطرق اقترابا من جوهره. يعرف نظام الأدب راهنا تحولات جوهرية، من بين مظاهرها، حث القارئ على دعم مفهوم الشراكة في صناعة الأدب عبر القراءة التفاعلية -الإنتاجية. فهل القارئ في الثقافة العربية مُهيأ ليكون شريكا حقيقيا في إنتاج الأدب.

    بقلم: زهور كرام

أضف تعليق


كود امني
تحديث